Monday, December 6, 2010

اعترافات ولد مؤدب سابقاً

نظراً لانني كنت طفل ذكي ولماح، كما وصفني البعض، فقد فهمت مبكراً نظرية المسلمات والمحظورات. تلك النظرية اللعينة التي تفرض علينا كافراد مجتمع محافظ ان نأخذ بما تمليه علينا تقاليده دون اي نقاش. كانت كلمتي "عيب" و"حرام" هما معلمي الاول، مثلي مثل الآخرين من اصدقائي وزملائي. فسرعان ما اقلمت نفسي علي ان اتفادي سماعهما عن طريق التطبع اللئيم للقواعد السائدة، بالرغم من احساسي العميق بعدم منطقية كثير منها. كنت افتخر عندما يستحسن احد الكبار اخلاقي، فيطلق علي عبارة "ولد مؤدب بيسمع الكلام". وبالرغم من احساسي العميق بان هذا المديح كان نتيجة موهبة في التمثيل رحل يوسف شاهين عن عالمنا دون ان يحالفه الحظ في اكتشافها واستثمارها لمصلحة تاريخه السينمائي، الا ان فخري واعتزازي باوسمة الاخلاق الحميدة جعلتني اتناسي واتغاضي عن مواجهة خديعتي، بل وصدقت مع مرور الايام انني فعلاً "ولد مؤدب".

اليوم، وبعد اعوام واعوام امتزجت بها نجاحات باهرة في محاسبة نفسي مع سقطات فادحة من الانكار المبين، وبعد ان زلزلت احداث هذه الحياة الحافلة بمواقف اقل ما توصف به هو "الشقاوة وقلة الادب" هذا المعتقد، ايقنت ان حان الوقت المناسب ان اعترف للآخرين، بعد اعترافي لنفسي، بخدعتي الماكرة. ومع هذا الاعتراف ودون التقليل من فداحة جريمتي، اود ايضاً ان اطرح تساؤلاً ولو جانبي عن جدوي هذه السياسة التربوية التي تمتعت بها انا وابناء جيلي باكمله، بل والاجيال التي سبقتنا وتلك التي لحقتنا الي يومنا هذا. فما المغزي الحقيقي من سياسة "عيب وحرام"؟ ومن المستفيد؟ وما نتائجها علي مجتمعنا؟ 

وطالما عزمت علي المصارحة فدعوني اتوكل علي الله واخوض في صلب ما اعتقده دون نفاق او مواربة. الحقيقة المرة هو اننا شعب اصبح سلبي جبان, نقص دينه, وقل ادبه, وخسر وطنه. نعم. الحقيقة نحن مواطنون بلا وطن اصلاً. حدود دولية قد ترسم خريطة رقعة جغرافية, ولكنها خالية من المضمون. صحراء انسانية جرداء لا يشقها نهر او بحيرة امل. طبيعتها اقسي من تضاريس بقاعها. مجتمعها رجعي ومتراجع ثقافياً واخلاقياً وعلمياً, متمسكاً بامجاد ماضي وتاريخ لم يفهمهما. عقيدة متطرفة تخلو من حب الله في معاملة الغير, ومتجردة من مبادئ الرحمة والمحبة والانسانية. طقوس ومظاهر مثالية تغطي فراغ امتلاه اليأس ونفخه وكبره الي ان اعتقدنا اننا اولياء ونحن سفهاء. كل هذا بالاضافة الي وضع سياسي اذا وصفناه بالركود فسيكون ذلك مديح واذا اطلقنا عبارة "المستبد الظالم" علي القائمين عليه، فمن منطلق الادب فقط ومراعاةً لرهف احساس بعض القراء امثال بناتي وبنات اختي الصغيرات التي لا اريد ان اظهر امامهم بصورتي الحقيقية لحفظ المقامات. 

والآن اريد ان اربط تساؤلاتي عن سياسة مجتمعنا التربوية بهذا الواقع المرير. فإذا بي اليوم اتدارك فجأة ودون سابق انظار ان ما كنت اعتقد انه نوع من انواع الادب ما هو في الحقيقة إلا جبن وسلبية. وان اوسمة الاخلاق الحميدة هي في الحقيقة دلائل عقم فكري شجعني عليه مجتمعنا كما شجع ابناء جيلي ومن أتوا قبله وبعده عليه. فنحن ترعرعنا جميعاً في هذا المناخ الذي يكافئ المتنحي المستسلم، ويعاقب المتطلع للفهم والاقتناع، ويحث علي الطاعة العمياء ويقهر من يرغب فهم اسبابها، فانتجت هذه السياسة التربوية اجيال من العقول المبرمجة علي الاعتقاد ان احترام "الكبير" معناه عدم مناقشته وان انتقاده سفالة ووقاحة، وان الايمان الحقيقي معناه عدم التحقق من صحة اي من تعاليم اهل الدين وان التشكيك باي منها كفر وإلحاد. اصبحنا غير مؤهلين لخوض مناقشة سياسية او دينية دون الوقوع في فخاخ السفالة وخنادق الكفر التي شيدها "الكبار" من حولنا باحكام واقتدار.

ونتج عن كل ذلك هذا النصب المجتمعي، الشامخ الاجوف، الفخور المهان، الوطني الخائن، الشجاع المستسلم المسمي بالمجتمع المصري. هذا المجتمع الذي يختنق من القيود الفكرية التي جعلت منه عرضة لبطش ديكتاتوريات كثيرة. دكتاتورية الحكم التي لا نجرؤ علي التصدي لها خوفاً من ان نوصف بالخيانة العظمي ونكران الجميل والعمل علي زعزعة النظام. دكتاتورية الفكر التي تلزمنا بالادب عند الحديث عي اي سياسي او كبير حتي ان لم يلتزم هو الادب في افعاله، فإذا لم نفعل اصبحنا نسيئ لرموزنا ولا نحترم كبار المقام. دكتاتورية التدين التي تملي علينا ما نقول وما لا نقول، ما نستطيع ابداء الرأي فيه وما لا نستطيع، حتي اذا كان الغرض الحقيقي من هذه الملزمات هو خلق وتوطيد سطوة العلماء علي دين الشعب ومن ثم علي فكرهم، وهي غاية سياسية وليست روحانية. 

وهذا هو الناتج الحقيقي والمنطقي لسياسة "عيب وحرام" التربوية التي اقسم ان احاول تفاديها مع اولادي من اليوم حتي وإن أدي ذلك الي ديمقراطية عائلية قد اندم عليها في المدي القريب. وها انا اليوم لم استطع المقاومة، فخضت الخندق وحاولت اختراق الفخ، وها انا اعيد اوسمة الاخلاق الحميدة لكم بنفسي لانني لن اكون "ولد مؤدب بيسمع الكلام" بعد اليوم، وهذا وعد! وتباً مقدماً لمن يحاول ارغامي علي السكوت من منطلق العيب او الحرام بعد اليوم.....

توكلت علي الله