بعد الإطاحة النهائية بالحاكم يوم ١١ فبراير اعتلت الزغاريد وعمت الفرحة وانهالت التهاني. من زعماء وحكومات، من شخصيات عامة ومسئولة، من جيران واقارب. الكل رقص علي نغمة الانتصار ويالها من احاسيس جميلة شارك فيها الجميع. فعلاً هذه الثورة ليست ملك "للثوريين" فقط.إنها ملك عام للمصريين جميعاً. هؤلاء الذين عارضوها وحاربوها وسخفوها ولعنوها، لهم حق الفرحة مثلهم مثل من أعطوا من دمائهم وصحتهم وأعراضهم ووقتهم ومالهم منذ لحظة إندلاعها والي يومنا هذا. نعم. بل ان ملكية الثورة يجب أيضاً ان تمتد الي خارج حدود الوطن، إلي العرب والأفارقة بل وللبشرية والعالم والكون، ولا يجب ان نستثني احداً من الفرحة بها. نعم. ملك الجميع. ملك حكومات ظلت منتظرة لحظة سقوط الطاغية، لكي تعلن عن إعجابها ومساندتها. وملك زعماء ظلوا يتواصلون مع مبارك سراً، حتي تأكدوا من سقوطه، ثم ظهروا يهنئون الشعب المصري العظيم. من حق الجميع ان يبتهجوا علناً. من حق الصهيوني ان يفرح. من حق الامبريالي ان يهلل. من حق الفاسد ان يرقص. من حق الظالم أن يضحك. ملك الجميع. وليست ملك لأحداً بعينه، أو مجموعة بعينها، أو حتي دولة بعينها. أهالي وسكان زحل وعطارد يرقصون إلي يومنا هذا وهذا من حقهم. تمام.
ومع ذلك التسامح المثالي وتلك المشاعر الجميلة، فأنا مصمم علي إعطاء ذو الحق حقه. حتي إذا كان البعض سيري في ذلك خرق في صفوفنا، أو محاولة لتفضيل أحد علي أحد، فالشخصيات اللاحق ذكرها كان لها الدور الرئيسي في الحراك السياسي علي الساحة المصرية، الذي أدي إلي إشعال نار ثورتنا العظيمة. هم من يستحقوا الشكر من وجهة نظر موضوعية بحتة، ومن ندين لهم بالجميل، كل الجميل حتي اذا اختلفنا معهم. وواجبنا ان نقف وقفة حق في وسط زئير الشعارات، لكي نؤرخ علي الأقل دورهم حتي لا ينزلقوا في حجرات التاريخ المظلمة وحتي لا نقع في غلطة نكران هذا الجميل العظيم.
بادئ ذي بدئ، ومن منطلق إعطاء كل صاحب حق حقه، فيجب أن نحي ونشكر ونتذكر المرحوم ابو عزيزي والشعب التونسي الشقيق. إن فتيل الإيمان بداخلنا لم تشعله سوي صورة هذا الشهيد الذي حرك شعباً بأكمله فصحا وأفاق وتمرد. هذا الشعب الذي عاني مثلنا، حتي لو إختلفت صور العناء. فتخلص من الخوف، وأعطانا أمل كان قد مات بداخلنا.
أما عن الشخصيات المصرية، وقبل ان نتطرق إليهم، فيجب الإيضاح ان مع عظمة الدور الذي لعبوه سواء عن دراية ووعي، أو بمحض صدفة أو قدر، فهم لم يقوموا بالثورة. ان من قام بالثورة هو الشعب. ومن قدم التضحيات هو أبنائه وبناته. ومن ثم فهو صاحب الفضل وصاحب الثورة. ولكن هذه القائمة المقتضبة توضح من كانت لأفعالهم دوراً حاسماً في تحريك الشعب، وتحويل نية التغيير إلي فعل. ترتيب ذكرهم ليس له مدلول عن اهمية دور كل منهم، بل هو فقط في إطار التسلسل الزمني لهذا الدور. أخيراً ومن الأمانة فعلي ان أذكر انني فعلياً غير معجب بأداء بعض هذه الشخصيات علي أصعدة مختلفة، ولكني أجبرت نفسي علي الإلتزام بالمبدأ الأدبي الذي نويت عليه.
أول هذه الشخصيات هو الدكتور أيمن نور، وهو الذي خرق قواعد لم يسبق لأحد أن يجرؤ علي إختراقها، عندما أسس حركة كفاية ورشح نفسه فعلاً كمنافساً للحاكم في الانتخايات الرئاسية منذ ٥ أعوام. كانت معركة انتخابية قوية نجحت في ان تثبت وتثبت مبدأ كان غائباً عنا لأعوام كثيرة، وهو اننا لسنا عبيد فرعون بل مواطنون لهم حقوق، وإن من هذه الحقوق هو حق السعي إلي السلطة والحكم. ما يميز هذا الشخص في هذا السياق عن الكثير من المعارضين الآخرين، هو انه كسر حاجز المباح ولم يقتصر دوره علي الإطار الذي سمح به النظام. مع الإحترام الكامل لرموز المعارضة السياسيين أو الإعلاميين الآخرين، فالدكتور أيمن لم ذهب حيث الخطوط الحمراء فقط، بل تخطاها متحدياً ودفع ثمناً باهظاً لذلك من حريته وصحته وسمعته. فالنظام القديم بقضائه وأمنه وإعلامه، سرعان ما جعلوا منه عبرة لمن لا يتعظ عملاً بالمثل الشعبي "إضرب المربوط، يخاف السايب" لأنه كان أول من حاول فعلياً أن ينافس الحاكم ويجرؤ علي تحديه. لدرجة انني علي يقين من أن الكثيرون لن يقبلوا ذكره في هذه القائمة، من كثرة ما روج عنه من أكاذيب.
ثاني إسم يستوجب الوقوف عنده، وهذه الوقفة يجب أن تكون طويلة ودقيقة هو الدكتور محمد البرادعي. وهو الذي تسبب بظهوره علي الساحة السياسية المحلية في عام ٢٠٠٩م في حراك عظيم بين شباب ومثقفي مصر. فهو تكلم بوضوح وموضوعية ودون إلتفاف أو مراوغة، بل وبدون سب أو قذف أو سفاهة أيضاً، عن عدم شرعية النظام برئيسه، وعلي حتمية إحداث تغيير جذري حتي تضع مصر أقدامها علي أول الطريق الي الحرية والديمقراطية الحقيقية. والأهم وأدل علي دوره العظيم، هو إنه لم يكتفي بالمطالبة أو الحديث، ولم ينخرط في أي من الأدوار الذي حاول النظام إغوائه وإغرائه بها، بل ذهب ليضع كلامه في حيز التنفيذ الفعلي. أسس جمعية سماها بحركة التغيير، ثم أصدر بيان بسبع نقاط منطقية ومفهومة وفي نفس الوقت مقتضبة وشاملة أصبحت متداولة بإسم بيان التغيير. كان لحديثه وأفعاله أثر غير مسبوق في تاريخنا المعاصر. فإلتف حوله جموع ضخمة غير مسبوقة في تحدي واضح للنظام. وصل عدد مؤيديه من الشباب والمثقفين علي صفحات الفيسبوك المختلفة إلي أكثر من نصف مليون في زمن قياسي. وإعتنق بيانه ووضعوا إمضائهم عليه أكثر من مليون مواطن مصري حقيقي. منهم الكبار ومنهم الشباب، السياسي المثقف والمصري البسيط، القبطي وعضو الإخوان المسلمين. ومن هذا التجمع خلقت نواة لمعارضة سياسية شعبية حقيقية لأول مرة في تاريخ مصر، بعد ان كانت مهازل الانتخايات البرلمانية تقدم لنا هياكل عنوانها المعارضة، ومضمونها الموافقة وإعطاء "شرعية" زائفة لحكومة دون شرعية حقيقية. هذه النواة هي التي تحركت يوم نادي الشباب للحراك وهي التي جعلت من حركة شبابية ثورة شعبية.
الشخصية المصرية الثالثة التي يستوجب الوقوف عندها هي خالد سعيد. وهو شاب لا أعلم عنه الكثير، ولن أتطرق لشخصه، بقدر ما أريد الإشارة الي الدور الذي لعبته جريمة قتله الدنيئة المتوحشة علي يد مخبري النظام في تحريك مشاعر المصريين جميعاً. فجأة انتشرت صورته علي جميع صفحات الفيسبوك، وتكونت مجموعات كثيرة تنادي بمحاكمة من قتلوه واهمها صفحة كلنا خالد سعيد، الذي بلغ عدد اعضائها نصف مليون مصري. أصبح هذا الشاب رمزاً لبطش النظام وحقارته. أثارت صوره مشاعر إستياء لدي الشباب بالأخص تجاه جهاز الشرطة المصري وأجهزته المختلفة وبالأخص مباحث أمن الدولة. ومن هذا الغضب وهذا اللهيب استمد الشباب من الحركات المختلفة قناعة ان تبدأ ثورة مصرية أو علي الأقل إنتفاضة وطنية في يوم عيد جهاز الشرطة هذا، يوم الخامس وعشرون يناير.
آخر من يجب الذكر هو وائل غنيم. وهو لعب دوراً أولي كأحد القائمين علي صفحة كلنا خالد سعيد السابق ذكرها، فحشد الشباب بكتاباته وعناوينه. ولكن هذا دور شاركه فيه الآخرين من مدونين ونشطاء علي إختلاف كتاباتهم أو أحاديثهم. أما دوره الثاني الذي هو السبب في وجود إسمه في هذا القائمة هو الذي بدأ عندما إلتقطت إحدي العدسات مشهد ولحظة القبض عليه في ميدان التحرير، وتبلور في إختفائه التام لمدة إثني عشر يوم ظل محبوس فيها لدي جهاز أمن الدولة إشتعلت بهم الندائات لمعرفة مصيره والمطالبة بالإفراج عنه، وتفاقم وانفجر عندما تم إطلاق سراحه في يوم كادت الثورة تنطفئ وتنفض فيه وتعلن هزيمتها، فإذا به يتم إستضافته في برنامج تليفزيوني أدت مداخلته به إلي إشعال لهيب الثوار والشعب سوياً مرة أخري لكي ينتفض الشارع انتفاضاته النهائية مطيحاً بالحاكم ونظامه.
والآن إذا دقننا النظر وتمعنا في الهؤلاء الأشخاص الأربعة فسنجد ان ما يجمعهم ليس الدافع الوطني فحسب، لأنه لو كان كذلك لاضطررنا ان نذكر الآلاف الآخرين الذين لا تقل وطنيتهم أو تضحياتهم من مناضلين ومعارضين أو أبطال ثوريين وشهداء لم نذكرهم. ان ما يجمعهم هو دور قدره الله لهم فكانت مشيئته انهم لم يتخازلاوا فيه. وما يجمعهم أيضاً ان الجموع إحتشدوا خلفهم وخلف ما رمزوا إليه بدون سبب مقنع، فليس منهم من يتمتع بلباقة فائقة او شكل جذاب او ميزة غير موجودة في الكثير من الآخرين. وآخر ما يجمعهم هو ان السلطة قامت بحملة إعلامية محكمة للتشهير بهم في وقت او آخر للقضاء علي صمعتهم تماماً في الشارع المصري. وإذا كان هذا المقال لن يعيد لهم ما أخذ منهم من تداعيات عن ولائهم او تعاطيهم خمور او مخدرات او تشهير بحياتهم الأسرية فهي محاولة من العبد لله للإنصاف في حقهم.
في النهاية دعونا نحمد الله سوياً علي نجاح الثورة وإلا كانت هذه القائمة قد كتبها أسامة سرايا وكانت ستضم أسماء معظمها يرتدون الآن ابيض في ابيض ويجلسون خلف قضبان طالما استخدموها في قمعنا. ودعونا نحمد الله ان الثورة نجحت واننا نحن الذي يطلب منهم التسامح، لأنها لو كانت فشلت لكنا جميعاً عالقين في أروقة أمن الدولة، ولكانت عبارات التسامح قد اختفت تماماً عند وصفنا بالمجرمين العملاء المرتزقة، ولكانت تهمة الخيانة العظمي كما توصفها العبارة الدارجة "لابسانا لابسانا".
الحمد لله وشكراً لكم د/أيمن، د/محمد، خالد ووائل وشكراً لأبطال مصر المجهولون جميعاً.