يحضرني ويراودني حوار اذاعته قناة المحور مع فضيلة مفتي الجمهورية الشيخ علي جمعة. كان هذا الحوار في الاسبوع الاول من الثورة. أتذكر جيداً رنين صوته وهو يداعبنا فكرياً بتساؤله العميق لنا عن ثورتنا. وان لم تخنني ذاكرتي فهو كرر السؤال اكثر من مرة، إلا لو كنت خدعت بإعادة مخرجي القناة العباقرة المبدعين بث الجملة مرات عديدة، حتي اصبحت شبه شعاراً للمحور علي مدار ٤٨ ساعة. كانت كلماته "عيزينها فارانساوية ولا عايزينها انجيليزية ولا عايزينها ايرانية"؟
وإذا كان هذا التساؤل مغزاه الوحيد آنذاك هو تخويفنا من عواقب إرادتنا الحرة وعدم طاعة فرعون، فإنني أذكره اليوم لسبب آخر تماماً. فثورتنا العظيمة لم ولن تأخذ أشكال تلك التي ذكرها فضيلة المفتي، مع إحترامي لمعلوماته التاريخية، التي أتمني وأتعشم ألا تكون مؤشراً لعلمه الديني. فثورتنا هذه أفسحت عن شخصيتنا الفريدة في الكثير من الأمور. الشعب المصري كثيراً ما يوصف بالكسل والثرثرة والإنسياق خلف اأاقاويل والإشاعات. وحتي إذا كنت سألاقي إعتراض من القارئ، فها انا اجزم ان الثورة أثبتت صحة هذه الافتراضات. قبل ان أنهش بوابل من القذائف العدوانية، دعوني أجزم أولاً انني لا استثني نفسي، وثانياً ان مع إثبات تلك السلبيات فقد ابرزت الثورة ايضاً صفات حميدة كنا لا نعلمها أو نسيناها. فهل يستطيع أحد أن يشكك في شجاعة وإخلاص وتفاني وذكاء ووطنية وإصرار "المصري" بعد أحداث ٢٥ يناير وما لحقها؟ بالطبع لا. ولكن ما يدعوني اليوم للإشارة إلي السلبيات ليس حباً في التشاؤم او إصراراً علي كسر معنويات شعبنا المنصر بل لأنني أتمني ان نري عيوبنا سريعاً حتي نتمكن من العمل علي تداركها وفهم عواقبها في هذه المرحلة الحاسمة.
الواقع الذي نعيشه اليوم هو ان الثورة نجحت في إستئصال مركز الورم الخبيث في أمعائنا، دون إزاحة جميع تكتلاته العديدة في باقي أعضائنا. لن أطيل عليكم في سرد حقائق ذكروها الكثيرون من قبلي، ويعلمها أي مصري، وهو أن النظام الذي نادي الشعب بإسقاطه مازال قائماً بدرجة كبيرة، وأن مؤشرات الثورة المضادة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، حتي إذا اختلفنا علي مقدار أهميتها أو خطورتها. فالرئيس "متخلي" عن الحكم وليس متنحي، وهو مقيم بشرم الشيخ وليس في القاهرة (وما الجديد في ذلك بالظبط؟)، وتم إنشاء لجنة دستورية لتنفيذ تعليماته، والحكومة (رئيس الوزراء) التي عينها هي التي تحكم، وهو وعائلته لم يتم توجيه اي اتهامات لهم، وعمر سليمان وزكريا عزمي مازالا يبدعون في الدور "الخفي" الذي اتقنوه علي مدار ثلاث عقود. أما النفاق الإعلامي فقد أخذ أبعاد "تحولية" تفوق حتي ما تعودنا عليه من إمكانيات تعبيرية قبل الثورة. نسمع ونقرأ من إعلاميين وصحفيين شعارات عن النجاح المبدع للثورة، وعن حتمية التسامح الذي يجب ان نتحلي به جميعاً، وعدم اتهام بعضنا البعض بالخيانة، وإلتزام الهدوء حتي نستطيع حصد ما زرعناه سوياً. والغريب ان هذه "التوجيهات" تأتي فقط ممن كانوا منذ شهر واحد يسترسلوا في النفاق الموجه الي الأب الحاكم أو في تسخيف أعدائه والتشهير بهم. لم نسمع ثوري وطني واحد يتحدث عن هذا الهراء، لأن أي عاقل يعلم انك لا تستطيع وقف استئصال الفساد عند شخص واحد او عشرة أشخاص، عندما يكون سمة طبقة كاملة من المتورطين الفاسدين في جميع القطاعات الحيوية كالسياسة والأمن والإعلام وقطاع الأعمال.
دعوني أوجز، فالثورة لم تنجح بعد بقدر ما أحدثت تغيرات كثيرة إيجابية. وإذا كان كل ما سبق ذكره يثير التخوف فهناك أيضاً الكثير مما يدعو إلي التفائل. ولكن تفائلنا يجب ان يكون واقعياً في توقعاتنا ومصطحب بالعمل والمثابرة حتي لا نضيع قوت كفاحنا. فإنه من المؤسف ان نكون علي وعي بإمكانية حدوث ثورة مضادة مع إختلافنا علي إمكانية نجاحها وان نترك في الوقت نفسه الفرصة أمام مدبريها أو الراغبين فيها والذي لا يوجد أدني شك في وجودهم في أن يستغلوا انسياقنا خلف الأقاويل والإشاعات وما هو أدهي، التطرق بحماس ومبالغة فيما هو لا جدوي منه سوي تفتيتنا.
في حين يستطيعون هم إستجماع قواتهم ومسح اثارهم وحرق مستنداتهم وإنشاء احزابهم وإرتياد أقنعتهم الجديدة، نأخذ نحنا مرة أخري مواقعنا المعتادة امام شاشات التلفزيون والكومبيوتر لكي نناقش شخصية وائل غنيم، او الظابط خلف عمر سليمان، او علاقات البرادعي بالخارج، او المادة ٢ من الدستور، او المقارنة بين عمرو موسي او احمد زويل، او مناقشة شرف وأمانة ومصداقية "أصنام" من الماضي كالجنزوري أو الكفراوي، او أحقية بعض المئات من الاشخاص في الاعتصام او الإضراب، وغيرها من المواضيع الثانوية التي لا ولم ولن تفيد لأنها كلها حملات "موجهة' الهدف منها هو إغراقنا في كسلنا حتي لا نتعود علي ما حققناه في ٢٥ يناير، وهو الدور الإيجابي الفعال.
هذا الدور الفعال الذي تمليه علينا الظروف هو ما دفعني لكتابة هذا المقال، وإن كنت قد أطلت في سرد ما سبق فإنني سألخص في الآتي. ليس لقلة أهميته ولكن لحتمية وضوحه. حقنا علي الثورة قد أخذناه، لأننا أصبحنا نعي قدرتنا علي خلق ما ننشده، وفهمنا اننا بإمكاننا ان نحقق أي شئ إذا اجتمعنا عليه، وتكتلنا في العمل والمجهود.
أما حق الثورة علينا فهو مازال قائم ويمكن ام نلخصه في ثلاث بنود أساسية كالآتي:
١.التمسك بمطالب الثورة الأساسية في إسقاط النظام بوزرائه وإعلامه، والإفراج عن المسجونين السياسيين، ومحاكمة المجرمين والفاسدين الذين قتلوا شهدائنا وسرقوا قوتنا فوراً ودون تعتيم او تهاون. هذا التمسك يكون عن طريق الحديث والتوعية في الحياة العامة والفيسبوك، والتظاهر إذا تم النداء إليه كل يوم جمعة لو لزم الأمر إلي أن تتحقق هذه المطالب. وإذا كنت لم تشترك في الثورة في بدايتها فآن الآوان أن تفعل الآن. الثورة بحاجة إليك اليوم أكثر من أي وقت مضي. القوات المسلحة درع لمطالبنا وإصرارنا لا يجب ان يفسد للود قضية. فهم لم يعتادوا السياسة كما لم نعتاد نحن المشاركة. سنتعلم سوياً وسنتقبل بعضنا البعض ومع الوقت سنصبح حليفين.
٢.عدم الإنسياق في الحوارات التي تقصد شق صفوفنا. فلا معني من مساندة او معارضة مرشحين رئاسيين لم يرشحوا انفسهم اصلاً. ولا اهمية لشخصية البرادعي او وائل غنيم غير ان نعترف بدورهم العظيم في إشعال هذه الثورة. وما يفيد الحديث عن مدنية علمانية او دينية اسلامية، في وقت نحتاج فيه المسلم في حماية الكنيسة والمسيحي في حماية المصلي المسلم؟ عدونا واحد، فيجب التركيز عليه دون غيره. ظهور القرضاوي مقصود، إستطلاعات الرأي عن المادة رقم ٢ في اهرام السرايا مقصود واستضافة مني الشاذلي وتامر أمين وغيرهم لقيادات الاخوان مقصود. أفيقوا جميعاً يرحمكم الله. مصر ملك لنا جميعاً سواء اقتنعنا بالبرادعي او زويل او المادة رقم ٢ أم لا. هذا هو وقت التكتل وليس التشتيت.
٣.التمسك الفردي بكل ما افرزته الثورة من طاقات تنظيمية ايجابية سلمية تضامنية. الثمن الباهظ للثورة لا يمكن انكاره، خصوصاً وأن النضام أصر وما زال يصر أن يضاعف منه حتي يحملنا أعبائه. ولكن إذا إلتزم كل منا بخطوات بسيطة فسنجد ان هذا الثمن كالدين او القرض الذي نستطيع تسديده، او علي الأقل الحد من تضخمه. نظف ولا توسخ. إحمي وطمئن ولا تهدد او تروع. ساعد بالكلمة والفعل بدل من التهويل في وصف الكارثة. إشتري من البقال او الكشك الصغير بدل من مترو او الفا حتي نساعد الضعيف علي إجتياز محنته. لا تسحب آلافات من حسابك إذا كنت بحاجة لمئات. افتح صندوق او " حصالة" في محل عملك يخصص ما تجمعه انت وزملائك اسبوعياً لمساعدة شخص او عائلة متضررة من الثورة. ابني جسر حوار عبر الطبقات، مثل الخادمة او البواب واسطحبهم معك وانت ذاهب الي ميدان التحرير يوم الجمعة القادم. ضاعف من تبرعاتك ومجهوداتك في العمل الخيري بقدر إستطاعتك.
أقسم لكم ان الفاسدين والمجرمين لم يقهروا ولم يختفوا بعد ولكنهم بيننا يتجملون ويكذبون ويتحولون حتي ترجع ريما لعادتها القديمة. ولكني أيضاً أعدكم اننا إذا التزمنا جميعاً بهذه الخطوات البسيطة سوف نفسد سوياً كل المخططات التي تريد إفشال ثورتنا. حق الثورة علينا ألا نسمح بإغتصابها أو إهلاكها. إفضح النفاق، ساهم في الثورة، ساند في البناء، شارك في العمل السياسي بدايةً بإبداء الرأي والمشاركة في النقاش الي الإدلاء بصوتك في جميع الاستفتائات والانتخابات.